من فوائد الذنوب
صفحة 1 من اصل 1
من فوائد الذنوب
بسم الله الرحمن الرحيم
من فوائد الذنوب
إحداها: اعتراف المذنبين بذنوبهم وتقصيرهم في حق مولاهم وتنكيس رؤوس عُجبهم، وهذا أحبُّ إلى الله من فعل كثيرٍ من الطاعات فإنَّ دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العُجب.
وفي الحديث: لو لم تذنبوا لخشيتُ عليكم ماهو أشدُّ من ذلك العُجب.
قال الحسن: لو أنَّ ابن آدم كلما قال أصاب وكلما عمل أحسن أوشك أن يَجنِ من العُجب.
قال بعضهم: ذنبٌ أفتقر به إليه أحبُّ إليَّ من طاعةٍ أدلُّ بها عليه.
أنين المذنبين أحبُّ إليه من زجل المسبِّحين لأنَّ زجل المسبِّحين ربما شابه الافتخار وأنين المذنبين يزيِّنُه الانكسار والافتقار.
قال الحسن: إنَّ العبد ليعمل الذنب فلا ينساه ولايزال متخوفاً منه حتى يدخل الجنة، المقصود من زلل المؤمن ندمه، ومن تفريطه أسفه، ومن اعوجاجه تقويمه، ومن تأخره تقديمه، ومن زلقه في هُوَّةِ الهوى أن يُؤخذ بيده فيَنجَى إلى نجوة النجاة.
قُرَّةُ عيني لابُدَّ لي منك وإن ... أوحش بيني وبينك الزلل
قُرَّةُ عيني أنا الغريق فَخُذ ... كفَّ غريقٍ عليك يتَّكِلُ
الثانية: حصول المغفرة والعفو من الله لعبده فإنَّ الله يحبُّ أن يعفو ويغفر، ومن أسمائه الغفَّار والعفوّ والتوَّاب، فلو عَصَمَ الخلق فلمن كان العفو والمغفرة؟ قال بعض السلف: أوَّل ما خلق الله القلم كتب إني أنا التوَّاب أتوب على من تاب.
قال أبو الجلد: قال رجلٌ من العاملين لله بالطاعة: اللهم أصلحني صلاحاً لافساد عليَّ بعده. فأوحى الله إليه أنَّ عبادي المؤمنين كلهم يسألوني مثلَ ما سألت فإذا أصلحتُ عبادي كلهم فعلى من أتفضَّلُ وعلى من أعود بمغفرتي؟!
كان بعض السلف يقول: لو أعلم أحب الأعمال إلى الله لأجهدتُ نفسي فيها. فرأى في منامه قائلاً يقول له: إنَّك تريد ما لا يكون، إنَّ الله يحبُّ أن يغفر.
قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يَبتَلِ بالذنب أكرم الخلق عليه.
ياربُّ أنت رجائي ... وفيك حسَّنتُ ظنِّي
ياربُّ فاغفر ذنوبي ... وعافني واعفُ عنِّي
العفوُ منك إلهي ... والذنبُ قد جاءَ منِّي
والظنُّ فيك جميلٌ ... حقِّق بحقك ظنِّي
المصدر: لطائف المعارف لابن رجب الجنبلي - رحمه الله - ص:
24،23
فائدة وحكمة في وقوع العبد بالذنوب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب طريق الهجرتين (1/168-169 ):
أن يشهد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئة أسبابه له وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها أنه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.
الثاني تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه.
الخامس إرادته من عبده تكميل مقام الذل والإنكسار فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذل وتيقن وتمنى أنه وأنه .
السادس تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطاءة الجاهلة وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله من به عليه لا من نفسه.
السابع تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش.
الثامن تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
التاسع تعريفه كرمه في قبول توبته ومغفرته له على ظلمه وإساءته.
العاشر إقامة الحجة على عبده فإن له عليه الحجة البالغة فإن عذبه فبعدله وببعض حقه عليه بل باليسير منه.
الحادي عشر أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به فإن الجزاء من جنس العمل فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثاني عشر أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم مع إقامة أمر الله فيهم فيقيم أمره فيهم رحمة لهم لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر أن يعريه من رداء العجب بعملهكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ، العَجَبَ"أو كما قال.
الخامس عشر أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته فإن من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر أنه إذا شهد إساءته وظلمه واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله فهو دائما مستقل لعمله كائنا ما كان ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيا.
العشرون أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده ويعرفه من أين يدخل عليه وبماذا يحذر منه كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.
الحادي والعشرون أن مثل هذا ينتفع به المرضى لمعرفته بأمراضهم وأدوائها.
الثاني والعشرون أنه يرفع عنه حجاب الدعوى ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى ولا طريق أقرب من العبودية فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاء مع العجب.
الثالث والعشرون أن تكون في القلب أمراض مزمنة لا يشعر بها فيطلب دواءها فيمن عليه اللطيف الخبير ويقضي عليه بذنب ظاهر فيجد ألم مرضه فيحتمي ويشرب الدواء النافع فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل
لعل عتبك محمود عواقبه... وربما صحت الأجسام بالعلل
الرابع والعشرون أنه يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا اقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه في طاعته فيكون التذاذه في ذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال والشديد الخوف بالأمن والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
الخامس والعشرون امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا فإنه إذا وقع الذنب سلب حلاوة الطاعة والقرب ووقع في الوحشة فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنت وأنت وتضرعت واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومألوفها ولم تحسن بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله وقد جاء هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.
السادس والعشرون أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان أو بعضها ولو لم يخلق فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانا بل ملكا فالذنب من موجبات البشرية كما أن النسيان من موجباتها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك والله أعلم.
السابع والعشرون أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه فإن الله إذا أراد بعبد خيرا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه وشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره.
وقال بعض السلف إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة ويعمل الحسنة فيدخل بها النار قالوا كيف قال يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.
الثامن والعشرون أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلا ولا له على أحد حقا فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقا من الإكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها فإنها عند أخس قدرا وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح في نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقه ساخطا عليهم وهم عليه أسخط فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.
التاسع والعشرون أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها فإنه في شغل بعيبه ونفسه وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس فالأول علامة السعادة والثاني علامة الشقاوة.
الثلاثون أنه يوجب له الإحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجيراه رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أصيب به ويحتاجون إلى مثل ما هو محتاج إليه فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم وقد قال بعض السلف إن الله لما عتب على الملائكة في قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وامتحن هاروت وماروت جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبني آدم ويدعون الله لهم.
الحادي والثلاثون أنه يوجب له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه فإنه إذا شهد لنفسه مع ربه سبحانه مسيئا خاطئا مذنبا مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه فكيف يطمع أن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضي عن الاستقصاء في طلب حقه قبلهم .
من فوائد الذنوب
إحداها: اعتراف المذنبين بذنوبهم وتقصيرهم في حق مولاهم وتنكيس رؤوس عُجبهم، وهذا أحبُّ إلى الله من فعل كثيرٍ من الطاعات فإنَّ دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العُجب.
وفي الحديث: لو لم تذنبوا لخشيتُ عليكم ماهو أشدُّ من ذلك العُجب.
قال الحسن: لو أنَّ ابن آدم كلما قال أصاب وكلما عمل أحسن أوشك أن يَجنِ من العُجب.
قال بعضهم: ذنبٌ أفتقر به إليه أحبُّ إليَّ من طاعةٍ أدلُّ بها عليه.
أنين المذنبين أحبُّ إليه من زجل المسبِّحين لأنَّ زجل المسبِّحين ربما شابه الافتخار وأنين المذنبين يزيِّنُه الانكسار والافتقار.
قال الحسن: إنَّ العبد ليعمل الذنب فلا ينساه ولايزال متخوفاً منه حتى يدخل الجنة، المقصود من زلل المؤمن ندمه، ومن تفريطه أسفه، ومن اعوجاجه تقويمه، ومن تأخره تقديمه، ومن زلقه في هُوَّةِ الهوى أن يُؤخذ بيده فيَنجَى إلى نجوة النجاة.
قُرَّةُ عيني لابُدَّ لي منك وإن ... أوحش بيني وبينك الزلل
قُرَّةُ عيني أنا الغريق فَخُذ ... كفَّ غريقٍ عليك يتَّكِلُ
الثانية: حصول المغفرة والعفو من الله لعبده فإنَّ الله يحبُّ أن يعفو ويغفر، ومن أسمائه الغفَّار والعفوّ والتوَّاب، فلو عَصَمَ الخلق فلمن كان العفو والمغفرة؟ قال بعض السلف: أوَّل ما خلق الله القلم كتب إني أنا التوَّاب أتوب على من تاب.
قال أبو الجلد: قال رجلٌ من العاملين لله بالطاعة: اللهم أصلحني صلاحاً لافساد عليَّ بعده. فأوحى الله إليه أنَّ عبادي المؤمنين كلهم يسألوني مثلَ ما سألت فإذا أصلحتُ عبادي كلهم فعلى من أتفضَّلُ وعلى من أعود بمغفرتي؟!
كان بعض السلف يقول: لو أعلم أحب الأعمال إلى الله لأجهدتُ نفسي فيها. فرأى في منامه قائلاً يقول له: إنَّك تريد ما لا يكون، إنَّ الله يحبُّ أن يغفر.
قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يَبتَلِ بالذنب أكرم الخلق عليه.
ياربُّ أنت رجائي ... وفيك حسَّنتُ ظنِّي
ياربُّ فاغفر ذنوبي ... وعافني واعفُ عنِّي
العفوُ منك إلهي ... والذنبُ قد جاءَ منِّي
والظنُّ فيك جميلٌ ... حقِّق بحقك ظنِّي
المصدر: لطائف المعارف لابن رجب الجنبلي - رحمه الله - ص:
24،23
فائدة وحكمة في وقوع العبد بالذنوب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب طريق الهجرتين (1/168-169 ):
أن يشهد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئة أسبابه له وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها أنه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.
الثاني تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه.
الخامس إرادته من عبده تكميل مقام الذل والإنكسار فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذل وتيقن وتمنى أنه وأنه .
السادس تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطاءة الجاهلة وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله من به عليه لا من نفسه.
السابع تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش.
الثامن تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
التاسع تعريفه كرمه في قبول توبته ومغفرته له على ظلمه وإساءته.
العاشر إقامة الحجة على عبده فإن له عليه الحجة البالغة فإن عذبه فبعدله وببعض حقه عليه بل باليسير منه.
الحادي عشر أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به فإن الجزاء من جنس العمل فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثاني عشر أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم مع إقامة أمر الله فيهم فيقيم أمره فيهم رحمة لهم لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر أن يعريه من رداء العجب بعملهكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ، العَجَبَ"أو كما قال.
الخامس عشر أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته فإن من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر أنه إذا شهد إساءته وظلمه واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله فهو دائما مستقل لعمله كائنا ما كان ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيا.
العشرون أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده ويعرفه من أين يدخل عليه وبماذا يحذر منه كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.
الحادي والعشرون أن مثل هذا ينتفع به المرضى لمعرفته بأمراضهم وأدوائها.
الثاني والعشرون أنه يرفع عنه حجاب الدعوى ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى ولا طريق أقرب من العبودية فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاء مع العجب.
الثالث والعشرون أن تكون في القلب أمراض مزمنة لا يشعر بها فيطلب دواءها فيمن عليه اللطيف الخبير ويقضي عليه بذنب ظاهر فيجد ألم مرضه فيحتمي ويشرب الدواء النافع فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل
لعل عتبك محمود عواقبه... وربما صحت الأجسام بالعلل
الرابع والعشرون أنه يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا اقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه في طاعته فيكون التذاذه في ذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال والشديد الخوف بالأمن والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
الخامس والعشرون امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا فإنه إذا وقع الذنب سلب حلاوة الطاعة والقرب ووقع في الوحشة فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنت وأنت وتضرعت واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومألوفها ولم تحسن بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله وقد جاء هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.
السادس والعشرون أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان أو بعضها ولو لم يخلق فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانا بل ملكا فالذنب من موجبات البشرية كما أن النسيان من موجباتها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك والله أعلم.
السابع والعشرون أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه فإن الله إذا أراد بعبد خيرا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه وشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره.
وقال بعض السلف إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة ويعمل الحسنة فيدخل بها النار قالوا كيف قال يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.
الثامن والعشرون أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلا ولا له على أحد حقا فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقا من الإكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها فإنها عند أخس قدرا وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح في نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقه ساخطا عليهم وهم عليه أسخط فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين.
التاسع والعشرون أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها فإنه في شغل بعيبه ونفسه وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس فالأول علامة السعادة والثاني علامة الشقاوة.
الثلاثون أنه يوجب له الإحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجيراه رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أصيب به ويحتاجون إلى مثل ما هو محتاج إليه فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم وقد قال بعض السلف إن الله لما عتب على الملائكة في قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وامتحن هاروت وماروت جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبني آدم ويدعون الله لهم.
الحادي والثلاثون أنه يوجب له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه فإنه إذا شهد لنفسه مع ربه سبحانه مسيئا خاطئا مذنبا مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه فكيف يطمع أن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضي عن الاستقصاء في طلب حقه قبلهم .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى